--------------------------------------------------------------------------------
نقدُ الشمس!
الكاتب : عبدالمجيد حسين تمراز
الإستقرار ليس دائماً حالة صحية .. والأحادية في عالم الأفكار كارثة قد تبدو في البدء أنها الصواب لكن سرعان ما تحرق كل شئ تماماً مثلما تكون الشمس ظاهرةً دائماً .. أي نهاراً بالكلية وباستمرار .. ولو كان من إيجابيات ذلك تجلّي الوضوح ..
نعم قد يكون ظلام الليل ومشكلاته أمراً ضروري لصيرورة الحركة الحية في المجتمع .. وتضاد الآراء و تدافع الناس لابد منه فكما قلنا سابقاً لاتنمو الحياة من غير الثنائية .. فدائماً هناك معادلة بين طرفين يسعى كل منهما للتوازن ..
ولو توازنا لأنتهت المهمة.. ومن هنا يجب أن نعلم أنه لا يمكن حل كل المشكلات.. ولا يمكن أن يصبح المجتمع في حالة تشابه وتناسخ .. إلا إذا كانت هناك طفرة غريبة .. ومن أمثلتها: (أن يكون هناك مصنع فكري للنسخ يُخرج بشر كلهم متشابهون في التفكير وبعض الأحيان في المظهر تماماً كالورق في المطبعة)..
أيّ أنه لو حصلت هذه الظاهرة المناقضة للطبيعة.. فإننا نعلم بأنها حصلت بتدخل البشر عن عمد لمسايرة رأي عن رأي.. أو بالأحرى لفرض طريق واحد في نظرهم هو الموجب.. والباقي قيمته بالسالب..
قلنا لو انتشرت مثل هذه الظاهرة لدى أكثر الناس أي أنهم يدينون بفكر واحد.. يعني أنّ لدينا حالة من الشذوذ المفتعل.. يكون فيه طرف مستفيدٌ من ذلك عادةً..
قد قرأت كتاب الدكتور علي الوردي (مهزلة العقل البشري)، وكان مما أكّد عليه دائماً هذه الظاهرة قائلاً:
(إن المجتمع البشري لا يستطيع أن يعيش بالاتفاق وحده، فلا بد أن يكون فيه شئ من التنازع أيضاً لكي يتحرك للأمام) صـ20، ويُشبّه هذه الظاهرة بمثال رائع ويقول: (إذا رأيت تنازعاً بين جبهتين متضادتين في مجتمع، فاعلم أن هاتين الجبهتين له بمثابة القدمين اللتين يمشي بهما) صـ 21 ..
ويقول أيضاً: (في الواقع أنّ البشر لن يصلوا إلى الأهداف الإجتماعية التي ينشدوها، فهم سيظلون دائبين في حركتهم نحو تلك الأهداف.. وسر الحياة الإجتماعية كامن في هذه الحركة الدائبة.. الحياة عبارة عن تفاعل وتناقض وتنازع ولو ذلك لما كان هناك شئ اسمه حضارة أو مجتمع) صـ77 ..
ويتجلى في كتابه عن هذه الظاهرة الإجتماعية حتى أنه قال بأنّ مظاهر الخلافة الأموية والعباسية وتحول الدولة الإسلامية إلى مُلك وإن كان فيها سلبيات كثيرة وتجاوزات خطيرة لها فوائدها من هذه الرؤية.. حيث لولاها لما حدث الإهتمام بمدى قوة الأمن والحماية المستمرة وبالأخص لما تطورت بعض العلوم والفنون الجمالية من نحت ورسم وموسيقى وعمران..
ونحن نعلم أنّ المجتمع بلا مشكلات فهو مجتمع إمّا خيالي أو خامل.. وقد تحدث علماء التاريخ والتطور البشري بأنّ الذي يجري من تأخر في أفريقيا سببه أن كل شيء كان في القِدم متواجد لديهم فلم يكن لديهم تحديات يتطوروا من خلالها..
وقد قال الله عز وجل في كتابه العزيز: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ) البقرة – 251..
هذه الآية هي البداية لأول ما بدأه الدكتور جاسم سلطان في كتابه الرائع أيضاً وهو (قواعد في الممارسة السياسية) وهو يوصّف سبب نشوء الظاهرة السياسية قائلاً:
إن وجود الإنسان لازمة ثلاثة أوضاع: 1- الإختلاف 2- التنوع 3- الندرة.. ومنها تكونت الظاهرة السياسية متمثلة في جوهر الصراع والتحكم في هذا الصراع المتكون من طرفين أو كثر.. ومحاولة تسوية الخلافات الإنسانية (ويقول مؤكداً).. إنها صفة لازمة وحتمية للحالة البشرية صـ31 ..
- والتنازع والإختلاف.. حقيقة لابد من إقرارها .. فالأفضل من التصدي لها .. هو احتواءها وتعلم التعايش معها وخلق الدوائر المشتركة بين كل الأطراف .. كما كان يفعل فقهائنا الأربعة الثقات من احترام لهذه الحقيقة والتعايش معها بكل انسيابية عاقلة..
وأختم مقولات الدكتور علي الوردي في هذا الصدد ويقول فيها بذكاء: (فلابد في كل حضارة من وجود أناس غير راضين.. وهؤلاء هم وقود الحضارة إذ يدفعونها دفعاً إلى الأمام على توالي الأجيال) صـ99 ..
إذاً لفهم الواقع بجدية علينا فهم هذه الظاهرة المهمة.. كي نكون أصحاب فكر يكوّن تياراً كهربائي يسري في أسلاك متمثلة في أهل المجتمع.. بدلاً من أفكار مثالية كهربائها مقطوع من برجها العاجي.. أو تكون 220 V أي لا تصلح للسريان في أسلاك المجتمع فإما لا تنيرها وإما أن تحرقها..